بيرل باك.. صاحبة نوبل الأولى
في (26 يونيو) عام 1892 ولدت صاحبة نوبل الأميركية بيرل باك في هيلز بورو غرب ولاية فرجينيا، وهي الأخت الوسطى لولد يكبرها بعشر سنوات، وبنت أخرى تصغر بيرل بسبع سنوات، يشتغل والداها ضمن برامج التبشير الديني، من أجل ذلك انتقلت الأسرة إلى الصين، حيث تلقت بيرل تعليمها الأول في مدرسة بمدينة شنغهاي، وكما وصفت نفسها فيما بعد كانت فضولية للتعرف على الناس وتفاصيل حياتهم وتقاليدهم، واغتنمت الفرصة أيضا لتتعلم اللغة الصينية والأساطير الطاوية والبوذية.
عادت بيرل إلى أميركا لتلتحق بالجامعة فحصلت على ليسانس في الآداب من كلية راندولف ماكون عام 1914، ثم اشتغلت مدرسة للفلسفة في نفس الكلية لمدة عام واحد، وفي عام 1917 تزوجت من الدكتور لوسينغ باك، فانتقلا للعمل في شمال الصين لمدة خمس سنوات، وعملت بيرل هناك في تدريس الأدب الإنجليزي في جامعات مختلفة.
سألت بيرل باك: «كيف بدأت الكتابة؟ فأجابت: كنت أصعد السلالم إلى غرفتي، وهناك بدأت أكتب، ليس من شيء مخطط أمامي، لا الوقت ولا المكان..»، فكانت أول أعمالها رواية (رياح الشرق) عام 1925، ثم رواية (رياح الغرب) عام 1930 التي صدرت فيما بعد تحت عنوان واحد (رياح الشرق رياح الغرب)، وهي تحكي عن حياة امرأة صينية عاشت في كنف تقاليد صينية عريقة وسط أسرة أرستقراطية محافظة لها الكثير من الجواري، قرر زواجها منذ ولادتها، لكن زوجها كان غريبا عن محيطه التقليدي بآرائه المنفتحة على العالم، فكان سببا لكي تتحرر من التقاليد الصينية. وللرواية تفرع آخر يتمثل في قصة شقيق كواي وتمرده على قرار أسرته بالزواج من إحدى العائلات الصينية الكبيرة، وزواجه من غربية لا تلقى ترحيبا كبيرا في مجتمعه، قصة تكشف عن لقاء الشرق والغرب من منظور كاتبة أميركية مطلعة على الثقافات الشرقية عموما، والصينية خصوصا، لكن رؤيتها الاستشراقية ظلت متحكمة في حبكة الرواية بشكل واضح، مما أهلها للحصول على جائزة بوليتزر للآداب.
والغالب أن روح الشرق حولتها إلى كاتبة مبدعة، خاصة أن شهرتها بدأت مع رواية (الأرض الطيبة) عام 1930 تلك الرائعة العالمية التي أبرزت فيها قدرا كبيرا من الاستيعاب للفضاء الصيني ولروحه الإنسانية، نالت هذه الرواية نجاحا سريعا وترجمت إلى 20 لغة منها اللغة الصينية، كما اقتبس منها فيلم سينمائي ضخم، وصدرت لها بعد ذلك رواية (الأبناء) عام 1932 التي اعتبرت تتمة لـ (الأرض الطيبة)، وفي عام 1935 صدرت رواية (بيت منقسم على نفسه)، وصارت الروايات الثلاث تباع في مجلد واحد تحت عنوان (بيت الأرض)، اعتبره النقاد ثلاثيتها عن الصين.
وصفت رواية (الأرض الطيبة) بالإنجاز الأدبي الإنساني الكبير، إذ عكست من خلالها الكاتبة حبها وتعلقها بطبيعة المجتمع الصيني الإنسانية وميله إلى العلاقات الأخوية، وأبرزت من خلال أوصافها والأحداث المتعاقبة قوة القيم في الصين، وحاولت أن تظهر بأن الشعب الصيني ممثلا بالبطل (وانغ لونغ) يحب أرضه أكثر من أي شيء، كان (وانغ لونغ) يرجع دائما إلى أرضه التي جعلته ثريا وساعدته على تأسيس عائلته الكبيرة، وكشفت بيرل كذلك عن تعلق الصينيين بدينهم، وقد بدا ذلك واضحا حين ذكرت المعبد حيث كان (وانغ لونغ) يبدي احترامه لإلهين، وهو يقول: «يجب أن أحرق بعض البخور أمام الصنمين في المعبد الصغير، فمع ذلك لهما سلطة على الأرض»، وأبرزت بيرل باك من خلال هذه الرواية أيضا بأن المزارع الأمي كان مهتما بالتعليم. لأنه سمح لأبنائه الثلاثة أن يتعلموا، حتى أنه سمح لابنه الأكبر أن يسافر لمتابعة دراسته، كانت المجاعة والحرب مشكلة كبرى في الصين، وقد تسببتا بالموت وبالنزاعات وبالتنقل وببيع البنات اللاتي أصبحن رقيقا، بالإضافة إلى ذلك، كانت الأقلية غنية مثل (آل هوانغ) الرجل الغني في المدينة. أما غالبية الناس فقد كانوا فقراء. وخلال جميع مراحل روايتها حاولت بيرل أن تقدم لنا المجتمع الصيني البسيط في تفاصيله الدقيقة، ومن تم تحاول وصلنا بمشاعر أولئك الأبطال الطيبين والمكافحين، كما تبرز لنا أن التمدن لا يضمن السعادة الإنسانية، وفي مقدمة الرواية تصف لنا بيرل ذلك الجو الذي كتبت فيه روايتها، وكأنها تريد نقل قارئها إلى فضاء تلك القرية الصينية البعيدة، تقول بيرل في مقدمة (الأرض الطيبة): «ألفت هذا الكتاب (الأرض الطيبة) منذ 14 عاما في مدينة (نانكين) بإقليم (كيانجسو) بالصين، وقد كتبته في غرفة مكتبي، وكانت غرفة هادئة بالسطح تطل نوافذها على سقوف المنازل القائمة وراء سور المدينة، وعلى مقبرة (سون يات سن) البيضاء التي تسطع سفح الجبل القرمزي اللون هناك..)، لما تتأمل هذه الكلمات في ظل عناوين الرواية، تحس بالفعل أن محور العمل هنا هو الأرض، وكما يقول (وانغ لونغ) أحد أبطاله: «جئنا من الأرض وإليها سنعود، فإن احتفظنا بالأرض أمكننا البقاء، فما من أحد يستطيع أن يسرق الأرض منا»، ولعل هذا المنحى الإنساني هو الذي أهل أعمال بيرل باك لكي تكون جسرا ثقافيا مستمرا بين الصين والولايات المتحدة.
فازت بيرل باك بجائزة نوبل للآداب عام 1938 تقديرا لما قدمته من أعمال أدبية متميزة، خاصة تلك التي تعرض تفاصيل الحياة الصينية، وقد سجلت الصحافة حينئذ اعتراض البعض على منحها الجائزة بسبب ما وصف بضعف كتاباتها، كانت أول روائية وشاعرة أميركية تنال جائزة نوبل للآداب عام 1938، وفي عام 1938 كتبت بيرل لأول مرة عن الحياة الأميركية في رواية (القلب الفخور) وكانت الحلقة الأولى لسلسلة روايات عن النساء الأميركيات، بينما يعتبر البعض أن سيرتها الذاتية (دنياي العديدة) هي أجمل ما كتبته بيرل بك، حيث تحكي عن المدن التي سافرت إليها مثل الهند واليابان وكوريا وفيتنام وحياتها في الصين، علما بأنها كتبت بعض أعمالها بأسماء مستعارة ثم عادت ونشرتها باسمها الحقيقي، كما هو الحال مع (مانذالا) ورواية (الحب يبقى).
نالت بيرل باك احترام وتقدير الكثير ممن تعرفوا على أعمالها، وصفها الكاتب وليم ليون فيلز بالكاتبة الممتازة. ومنحتها جامعة (ييل) عام 1933 درجة الأستاذية الفخرية في الأدب، ونالت أيضا درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة فرجينيا الغربية وجامعة سانت لورنس، وفي عام 1935 نالت ميدالية هويلز، واختيرت عضوا في المعهد الوطني للفنون والآداب عام 1936، وضمن جهودها لخدمة التواصل الشرقي الغربي أسست (جمعية الشرق والغرب) وتولت رئاستها، بهدف التقريب بين الشرق والغرب.
توفيت بيرل باك عام 1973، وكان آخر ما تأسفت له هو التمييز العنصري الذي عم بلادها أميركا، تلك البلاد التي طالما من أجلها غبطت هدوء وإنسانية تلك القرية الصينية البعيدة.