زوابع الخريف

موضوع: زوابع الخريف الأحد أغسطس 17, 2008 3:19 pm

زوابع الخريف
بقلم: عبدالعزيز السباعي
تدور الأيام وتتعاقب الشهور لتتوالى الفصول.. يذهب الشتاء وينتهي الربيع وينصرم الصيف فيحل الخريف.. وفي الخريف تكثر الزوابع فتتطاير الأوراق وتذبل الأغصان وتجف الفروع، لكن تبقى الأصول ثابتة لتواصل دورة الحياة من جديد عندما يذهب الزبد جفاءً ويمكث فقط ما ينفع الناس.
لا نتحدث عن الخريف الجغرافي، فهذه الأمور تكفلت بحسمها الطبيعة، بل ينصب هذا الكلام على خريف الفكر والقضايا الممجوجة.. الخريف هنا وثيق الصلة بالخرف، أي السفه وفساد الرأي والعقل، ومنه الخرافة والتخريف.
في هذا الخريف يختلف الناس حول البديهيات ويتورط كثيرون من العقلاء في مجاراة السفهاء لإعادة إثبات ما هو ثابت بالضرورة.. ينسى البعض ويتناسى آخرون مشاكلهم الكبيرة ليتفرغ كل طرف لتفنيد آراء معارضيه ويغرق الجميع في سفاسف الأمور فتضيع معالم الطريق وتختفي الجادة ويتخبط الناس وتتشتت الجهود ويتبدد الوقت وتتقهقر المسيرة.
هذا باختصار -مع قليل من التجريد- وصف إجمالي لبعض أحوالنا الراهنة، فلا تكاد تمر فترة إلا ويخرج علينا نفر من العاطلين فكرياً بتعليق مستفز أو تصريح مثير تتلقفه وسائط الإعلام لتبدأ دورة التخريف والتجديف المضاد فيما يظنه البعض سجالاً بين الرأي والرأي الآخر مع أنه ليس ثمة رأي رشيد ليعيد الأمور إلى نصابها.
مرة يخرج علينا أحد هؤلاء بأن المجتمعات الملحدة تفوقت علينا في ميدان الحضارة والتقدم فصعدت إلى أجواء المجرة وشطرت الذرة ووفرت حاجاتها من الغذاء والكساء.. ويستنتج من ذلك أنه، لكي نتقدم مثلهم علينا أن ندير ظهورنا للدين.. وهذا قياس خاطئ تماماً لأنه يجافي أبسط قواعد المنطق، كمن لدغته أفعى فأمسى يتهيب عند رؤيته أي حبل، فتلك الشعوب لم تتقدم نتيجة الإلحاد، بل لأنها حددت أهدافها في الوجود واجتهد كل أفرادها في سبيل تحقيق هذه الأهداف.. وشعوبنا لم تتخلف بسبب التدين، إنما نتيجة الكسل والإهمال وإهدار الثروات وتبديد الإمكانيات وتضييع الأوقات، ومثل هذه السلوكيات المرذولة ترفضها تعاليم الدين الصحيح.. ثم إن تلك الشعوب المتحللة جلبت للبشرية أشكالاً شتى من الدمار والفساد من الإيدز إلى الحروب والصراعات لأنها لا تقيم وزنا للطهارة ولا تؤمن بوظيفة الإنسان الحقيقية في إعمار الكون.
ورغم هذه البديهية الواضحة يستمر الخلاف حول ثنائية "التقدم والتدين" ويتمادى السفه وتتشعب القضايا الفرعية ليخرج علينا مرة أخرى من يعتبر احتشام النساء ردة حضارية وعودة إلى الوراء.. من دون أن يحدد أي وراء يقصد، فيا حبذا لو عدنا إلى "وراء" بعينه، أيام كانت بلادنا مهد الحضارة وقبلة التمدن ومعقل الرقي وموطن سادة الأرض ومن عليها، مع الأخذ في الاعتبار فروق التفاصيل الحياتية التي تفرضها سنة التطور. وتأتي قمة التناقض عندما يسوق مناهضو الحجاب مزاعمهم وكأنها تنطلق من قناعات ليبرالية أو من احترامهم للحريات الشخصية، واعتبارهم الاحتشام الحقيقي منوطاًَ بالعقل وبالسلوك ولا علاقة له بالمظهر أو الملبس.
ومكمن التناقض هنا أن ألف باء الحريات الشخصية تعني أن يرتدي كل إنسان ما يشاء دون أن يتعرض للقهر أو التمييز أو السخرية والتسفيه، كما أن الليبرالية تفرض على كل شخص أن يتقبل حريات الآخرين، وما يترتب عليها من تصرفات وسلوكيات، وأن يسلم بحقوقهم ويحترم اختياراتهم قبل أن يبدأ هو ممارسة حريته على هواه.. كذلك لم يثبت أن الاحتشام في المظهر والملبس قرين الرذيلة، ولم يثبت أيضاً أن التبذل والتبرج والسفور والخلاعة والمجون عناوين للفضيلة والاستقامة ورجاحة العقل ورقي السلوك!!
وأعجب ما في الأمر اعتبار الحجاب مظهراً يدل على سيادة طائفة من الناس على باقي فئات المجتمع، إذ قال أحدهم في معرض مناهضته للحجاب والاحتشام إنه يصبغ المجتمع بلون إسلامي صرف وإن في ذلك خطراً على حقوق المواطنة.. وكأنه لم يشاهد في حياته راهبة متألقة في زيها المحتشم، ولا سيدة في كنيسة بلباس وقور.
يبدو من ذلك جلياً أن هؤلاء النفر يلوون عنق الحقائق ويتخيرون من ظواهر المناهج الفكرية ما يروق لأهوائهم.
مسألة الحجاب والاحتشام إذن محسومة فهي من الدين فرض معلوم بالضرورة، ومن منظور الحرية الشخصية حق لا لبس فيه بالمنطق والسليقة.. وقبل ذلك فإن الملابس مظهر أصيل من مظاهر الإنسانية ودليل بارز على الحضارة والتقدم والرقي، فالبدائيون مثلاً لم يكونوا يسترون من أجسادهم إلا موضع العورة بخرقة صغيرة أو بورقة توت، وبقيت القرود والحمير والضباع وباقي الحيوانات، إلى يومنا هذا عارية تماماً.
ومن الحيوانات في الغابات، والكلاب في الشوارع إلى الشخص البدائي في البرية، وحتى الإنسان العاقل مكتمل الأهلية في المجتمعات الواعية.. تتفاوت درجات اللبس والاحتشام في سلم النشوء والارتقاء.
العودة للوراء إذن والحنين إلى البهيمية ليسا في الحجاب ولا في الاحتشام، بل في كشف ما يلزم ستره من الأجساد للتفرقة بين البشر الأسوياء، وبين البهائم والهوام.
ولم تكن بنا حاجة، والحال هكذا، لتضييع الوقت في الرد على كل ناعق، لولا أننا نعيش في خريف الفكر الذي لبدت غيومه الأجواء. ولو حاولنا أن نلقم كل من يعوي بحجر لصار مثقال الصخر بدولار.

موضوع: رد: زوابع الخريف الأحد أغسطس 17, 2008 4:19 pm

شكرا على هذا الابداع

jocolor

أستذنا الفاضل
9855555